الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
من أبلغ معاني المدح والثناء من الله لرسوله الكريم ﷺ أنه سبحانه وصف فضله تعالى على نبيه محمد بالعظيم؛ فقال: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾
تمام النعمة، والفضل العظيم، من الله تعالى على الرسول ﷺ:
من أبلغ معاني المدح والثناء من الله لرسوله الكريم ﷺ أنَّه -سبحانه- وصف فضله تعالى على نبيِّه محمد ﷺ بالعظيم؛ فقال: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، فهذا وصفٌ يكشف عن جزيل العطاء لأنَّ الواصف للفضل بالعظمة هو «العظيم» سبحانه! -أيضًا- وَصَفَ اللهُ فضلَه على رسوله ﷺ بالكبير، فقال: ﴿إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 87]، ومن جديد فالفضل الذي يصفه العليُّ الكبيرُ -سبحانه- بالكبير لا شَكَّ أنَّه كبيرٌ جدًّا!
وأكثر من هذا ما جاء في آية سورة الفتح حين أكَّد الله تعالى على «تمام» نعمته على رسوله محمد ﷺ، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ [الفتح: 2]، وهذا «التمام» للنعمة له مظاهر كثيرة مدعومة بعددٍ كبيرٍ من الشهادات الربَّانيَّة في القرآن الكريم.
فمن تمام النعمة على رسول الله ﷺ مغفرة ما تقدَّم من ذنوبه وما تأخَّر؛ قال تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: 2]، ومغفرة الذنوب السابقة متكرِّرٌ مع كثيرٍ من التائبين، ولكن مغفرة الذنوب المستقبليَّة أمرٌ فريدٌ خاصٌّ برسول الله ﷺ، وهو ليس أمرًا عاديًّا؛ لأنَّ هذه الآية نزلت في آخر السنة السادسة من الهجرة، ممَّا يعني أنَّ المتبقي في حياة الرسول ﷺ يزيد على أربع سنوات، فهذا إبلاغٌ مبكِّرٌ جدًّا لرسول الله ﷺ بأنَّ ذنوبه القادمة في كلِّ هذه السنوات مغفورةٌ من الله تعالى. هذا الأمر لفت أنظار الصحابة، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [الفتح: 2]»، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَنِيئًا لَكَ مَا أَعْطَاكَ اللهُ، فَمَا لَنَا؟ فَنَزَلَتْ: «﴿لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 5]».
ومن المهمِّ هنا بخصوص هذه المسألة أن نذكر أمرين:
الأول: هو أنَّ الرسول ﷺ لم يتَّخِذ هذه البشارة طريقًا للراحة والقعود؛ إنَّما زاد في عبادته وقربه من الله تعالى؛ فعَنْ عَائِشَةَ ل: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺكَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا..».
وأمَّا الأمر الثاني: فهو تعريف الذنب بالنسبة إلى رسول ﷺ؛ فجلُّ العلماء على أنَّه -ﷺ- معصومٌ أصلًا من الذنوب، وهذا في الواقع أمرٌ منطقيٌّ وعقليٌّ ومقبول؛ لأنَّ المسلمين مأمورون باتِّباعه ﷺ، والاقتداء به، فكان لزامًا من الله تعالى أن يعصمه عن فعل الإثم لكيلا يختلط الأمر على المسلمين في الاتِّباع، كما أنَّ الله قد نزع حظَّ الشيطان من قلب رسول الله ﷺ في طفولته، و-أيضًا- أعان اللهُ تعالى رسوله محمدًا ﷺ على شيطانه فأسلم، فقد ذكرت عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟» فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ».
من هذا المنطلق تأوَّل العلماء الذنبَ المذكور في الآية.
قال ابن عاشور: «هُوَ اسْتِغْفَارٌ مِنَ الْغَفَلَاتِ وَنَحْوِهَا، وَتَسْمِيَتُهُ بِالذَّنْبِ فِي الْآيَةِ إِمَّا مُحَاكَاةٌ لِمَا كَانَ يكثر النبيُّ ﷺ أَنْ يَقُولَهُ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي» ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ فِي مَقَامِ التَّوَاضُعِ، وَإِمَّا إِطْلَاقٌ لِاسْمِ الذَّنْبِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنَ الِازْدِيَادِ فِي الْعِبَادَةِ مِثْلُ أَوْقَاتِ النَّوْمِ وَالْأَكْلِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا عناه النبيُّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» .
وقال الثعلبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ: لِتَسْتَنَّ أُمَّتُكَ بِسُنَّتِكَ».
وقال مَكِّيٌّ: «مخاطبةُ النبيِّ ﷺ هاهنا هي مخاطبةٌ لأُمَّتِهِ».
هذا بخصوص هذا الجانب من تمام النعمة، ومع ذلك فهناك جوانب أخرى كثيرة لهذا التمام.
فمن تمام نعمة الله على نبيِّه محمد إنزاله -سبحانه- السكينة عليه بشكلٍ خاصٍّ، قال تعالى واصفًا موقف الهجرة من مكة إلى المدينة: ﴿فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 40]، وقال واصفًا لغزوة حُنَين: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 26]، وقال في أحداث الحديبية: ﴿فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 26]، فمع أنَّ السكينة نزلت على المؤمنين جميعًا في الآيتين الأخيرتين، إلَّا أنَّ تخصيص النبيِّ ﷺ بإنزال السكينة عليه تشريفٌ له وتعظيم.
ومن تمام نعمته عليه -سبحانه- على نبيِّه محمد ﷺ إعطاؤه نهر الكوثر في الآخرة، وتبشيره في الدنيا بهذه البشارة الكبرى. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1]، وقالت عَائِشَةُ ل في وصف هذا النهر نقلًا عن الرسول ﷺ: «نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ» . -أيضًا- وَعَدَ اللهُ رسولَه ﷺ بالمقام المحمود يوم القيامة، فقال: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]، والمقام المحمود هو مقام الشفاعة يوم القيامة، وقد بيَّنه ابْنُ عُمَرَ ب، فقال: «إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلاَنُ اشْفَعْ، يَا فُلاَنُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللهُ المَقَامَ المَحْمُودَ» ، وسنأتي لتفصيل ذلك في فصلٍ قادم.
ومن تمام نعمة الله على نبيِّه ﷺ أن اختاره لهذه الرحلة الفريدة التي عُرِفَت برحلة الإسراء والمعراج، وهي الرحلة التي لم تحدث لبشرٍ غير محمد ﷺ، وفيها أُسْرِيَ به من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرِجَ به إلى السماوات العلى، بل وتجاوز ذلك إلى دخول الجنة، وهو الوحيد من البشر الذي دخلها وهو ما زال في عداد الأحياء. وثَّق الله هذه الرحلة الفذَّة في كتابه لتظلَّ خالدةً في الذكر، ويظلَّ الرسول ﷺ مهيبًا عند المؤمنين، معظَّمًا بتعظيم الله له. جاء ذكر الإسراء في الآية الكريمة: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]، بينما ذُكِرَ المعراج في آياتٍ من سورة النجم. قال تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 5 - 18]. والحقُّ أنَّ قصَّة الإسراء والمعراج تحتاج إلى تفصيلٍ خاصٍّ لِمَا تحتويه من مظاهر متعدِّدة لتشريف الرسول ﷺ.، ولقد اختصر الله تعالى مظاهر هذا التشريف بالآية التي ختم بها حديثه عن المعراج، فقال: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾، فهذا الذي رآه لم يَرَه أحدٌ غيره.
ومن تمام نعمته -سبحانه- عليه ﷺ أن أفاض عليه من العلم؛ فقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: 113].
ومن تمام نعمته -سبحانه- -أيضًا- على رسوله ﷺ أن أكَّد له أنَّه على الحقِّ الواضح الصريح؛ قال تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل: 79].
ومن تمام نعمته -سبحانه- -أيضًا- على رسوله ﷺ أنَّه طمأنه أنَّ بلاغه للناس كان واضحًا، وأنَّه بَيَّن لهم بنود الشريعة خير تبيين. قال تعالى واصفًا رسوله ﷺ: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: 29]؛ فالحقُّ في الآية هو القرآن، وقد وُصِف الرسول محمدٌ ﷺ في الآية نفسها بأنَّه رسولٌ مُبين؛ أي أحسن بيان هذا الحقِّ، ووضَّح معالم طريق الهدى أفضل توضيح، وشرح القرآن بما يكفي لجعله حجَّةً من الله على عباده. وقد أعاد الله تعالى وصف نبيِّه ﷺ بالإبانة في سورة الدخان، فقال: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: 13]، فأكَّد على جودة الإبانة ووضوحها باستنكاره أن يتذكَّر مشركو مكة، يعني أنَّهم علموا الحقَّ بعد أن أحسن الرسول ﷺ بيانه، لكنَّهم رفضوه عن عمد، وبالتالي فهم لن يتذكَّروا العودة إلى الله. وأكَّد الله تعالى على هذا المعنى بقوله: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ [الذاريات: 54]؛ أي أعرض عنهم، ولا تكترث بتكذيبهم، فلا يقع عليك لومٌ لذلك فقد أدَّيت ما عليك، وصياغة الآية في تشريف لرسول الله ﷺ، فقد زاد حرف «الباء» لكلمة «ملوم» للـتأكيد على عدم اللوم، وأتي بجملةٍ ﴿فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ اسميَّةٍ لا فعليَّة كنحو «لا نلومك»؛ ليُثْبِت دوام عدم اللوم من الله لرسوله ﷺ، وصرَّح بكلمة «أنت» للتشريف بدلًا من: «فلا لوم عليك».
ومن تمام نعمته -سبحانه- -أيضًا- على رسوله ﷺ أن رفع له ذكره بين الناس؛ قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]، وقال أيضًا: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: 44]. وهذا الرفع للذكر لم يكن في زمانه وعصره وبلاده فقط؛ إنما امتدَّ عبر الزمان والمكان، فشمل العالم بأسره، وامتدَّ إلى وقتنا هذا، وسيظل مرفوعًا إلى آخر عمر الدنيا، بل سيكون ذكره عاليًا يوم القيامة، وكذلك في الجنة، وسنأتي لتفصيلاتٍ بخصوص هذا الأمر في فصلٍ قادمٍ إن شاء الله.
ومن تمام نعمته -سبحانه- -أيضًا- على رسوله ﷺ أنَّه لم يجعل ذكره مرفوعًا في عالم الإنس وحده؛ إنَّما رفع ذكره في عالم الجنِّ كذلك! فصَرَفَ له فريقًا من الجنِّ يستمعون تلاوته، ويؤمنون برسالته، ويُبَلِّغون أقوامهم أمرَه، ويحضُّونهم على اتِّباعه! قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف: 29]، وقال: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن: 1].
ومن تمام نعمة الله جلَّ وعلا على رسوله ﷺ أنَّه -سبحانه- كان يواسيه في حزنه، ويُسَكِّن فؤاده بكلماتٍ رقيقةٍ ترفع من همَّته، وتشدُّ من أزْره، وتوضِّح له كيف يتعامل مع الأزمة التي سبَّبت حزنه، وهذا متكرِّرٌ بكثرة في القرآن الكريم، وذلك على غرار قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 176]، وقوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33]، وقوله أيضًا: ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [يس: 76]، وقوله كذلك: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 97 - 99]، ولما شَمَتَ الكافرون في رسول الله ﷺ لموت أولاده الذكور، وانقطاع عَقِبه بذلك، قال له تعالى مواسيًا: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 3]، أي أنَّ الذين يكرهونك هم المقطوعون وليس أنت، ولما شَمَتَ فيه الكافرون لانقطاع الوحي عدَّة أيَّام، أنزل الله قوله مواسيًا لرسوله ﷺ ومطمئِنًا له: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 3]، ولمـَّا أخرجه الذين كفروا من مكة، فاضطُّر للهجرة إلى المدينة واساه بقوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ [محمد: 13]، وهذه ليست إلَّا أمثلة، ومواساة ربِّ العالمين لرسوله الكريم ﷺ في القرآن كثيرة للغاية، وهي تُبْرِز مدى حُبِّ الله تعالى للنبيِّ محمدٍ ﷺ، ورحمته به.
ومن تمام نعمته -سبحانه- على نبيِّه ﷺ أن حذَّر الناس من إيذائه بأيِّ صورةٍ من الصور، فقال: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ﴾ [الأحزاب: 53]، وتوعَّد الذين يقعون في هذا الجُرْم الكبير باللعنة والعذاب المهين. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]. ولم يكن بالضرورة أن يكون الإيذاء عظيمًا في أعين الناس حتى يحذِّرهم الله منه، بل إنَّ الله تعالى حذَّر المؤمنين من مجرَّد المكوث في بيت الرسول ﷺ مدةً طويلةً تُسبِّب له الإحراج، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ﴾ [الأحزاب: 53]. إنَّه كان من الممكن أن تأتي الأوامر في الآية السابقة عن طريق جبريل عليه السلام دون أن تكون قرآنًا يُتْلَى، خاصَّةً أنَّها محدودةٌ بالفترة الزمنيَّة التي عاشها الرسول ﷺ، ولكن أراد الله توثيقها في كتابه ليعلم المسلمون شرفَ النبيَّ ﷺ عند ربِّه عز وجل، حتى حفظ له في الكتاب هذا التوقير والأدب.
ويلحق بالنقطة السابقة تمام النعمة على الرسول ﷺ بتعليم المسلمين زيادة الأدب والوقار في التعامل معه في كلِّ الأمور، ومن ذلك التحذير من مناداته باسمه، بل ينبغي أن ينادوه بألقاب النبيِّ والرسول. قال تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: 63]، وحذَّرهم من مناداته للخروج وهو في بيته، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: 4]، ونبَّه على خفض الصوت في حضرته، وبيَّن أنَّ رفع الصوت أمامه ذنبٌ كبيرٌ قد يُحْبِط الأعمال، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]، ونهى المسلمين عن التقدُّم بين يديه -ﷺ- بقولٍ أو فعل، أو مقاطعته بكلام. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1].
ومن تمام نعمة الله تعالى على رسول الله محمد ﷺ أن عَصَمَه من الناس، وطمأنه إلى ذلك في حياته، فقال له: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، وكفاه كذلك من يستهزأ به، و-أيضًا- طمأنه إلى ذلك في حياته، فقال له: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95]. بل أعلى من ذلك تعهَّد الله تعالى بحفظ رسوله ﷺ بأعجب صياغةٍ ممكنة، وبأعظم تشريفٍ يمكن أن يُتخيَّل، وذلك حين قال سبحانه: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]! والآية لا تحتاج إلى تعليق!
ومن تمام نعمته -سبحانه- -أيضًا- على رسوله ﷺ أن بشَّره بالنصر قبل أن يحدث؛ ليُطمئِن قلبه، ويُسْعِد روحه، فقال له: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1]، وهذا الفتح هو صلح الحديبية، وكان المسلمون يرونه شَرًّا، فطمأن الله نبيَّه ﷺ أنَّ الخير العميم سيأتي من ورائه حتى عدَّه فتحًا مبينًا، وجعل الفتحَ في الآية لرسول الله ﷺ ﴿فَتَحْنَا لَكَ﴾ مع أنَّه فتحٌ للمسلمين جميعًا وذلك تشريفًا له -ﷺ- ورفعًا لمكانته. وقال الله تعالى له مبشِّرًا: ﴿وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ [الفتح: 3]، وهذا تبشيرٌ بنصرٍ قادمٍ لم يحدث بعد، وطمأنه على دخول مكة مستقبلًا، وربط الدخول برؤيا رآها الرسول ﷺ تعظيمًا لقدره. قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ﴾ [الفتح: 27]، وطمأنه أنَّ دينه -ﷺ- سيَظْهَرُ، أي سيعلو وينتصر على كافَّة المعتقدات الأخرى، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف: 9]، وكرَّر المعنى نفسه في سورتي التوبة [آية 33]، والفتح [آية 27].
ومن تمام نعمته -سبحانه- على نبيِّه محمد ﷺ أنَّه كان يُناديه «دومًا» في القرآن بلقبه لا باسمه؛ فكان يقول له: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ [الأنفال: 64]، وتكرَّر هذا النداء في القرآن ثلاث عشرة مرَّة، وناداه مرَّتين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: 41]، ولم ينادِه قط بنداء «يا مُحَمَّد»، مع أنَّ هذا متكرِّرٌ كثيرًا مع بقيَّة الأنبياء؛ على غرار قوله تعالى: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ [هود: 76]، وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: 55]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: 46]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: 144]، وقوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ [البقرة: 35]، وقوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ [ص: 26]، وهكذا. لا شَكَّ أنَّ هذا ليس تقليلًا من شأن هؤلاء الأنبياء الكرام، فيكفيهم شرفًا أن يُناديهم بذواتهم خالقُ السماوات والأرض، ولكنَّ التشريف الأعظم أن يمتنع اللهُ تعالى عن مناداة رسوله ﷺ باسمه في القرآن، ويناديه بهذه الألقاب التشريفيَّة العظيمة! إنَّ هذه -والله- فضيلةٌ كبرى!
ومن تمام نعمته -سبحانه- على رسوله محمد ﷺ أن أقسم بحياته في القرآن الكريم! قال تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: 72]، وَكَلِمَةُ لَعَمْرُكَ صِيغَةُ قَسَمٍ، وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَفْظِ «عَمْرٍ» لَامُ الْقَسَمِ، وَالْعَمْرُ-بِفَتْحِ الْعين وَسُكُون اللَّام- أَصْلُهُ لُغَةٌ فِي الْعُمْرِ بِضَمِّ الْعَيْنِ، فَخُصَّ الْمَفْتُوحُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ لِخِفَّتِهِ بِالْفَتْحِ . وهذه هي المرَّة الوحيدة في القرآن كلِّه التي يُقْسِم فيها الله عز وجل بحياة إنسان، والأصل أنَّه -سبحانه- يُقْسِم بعظيم مخلوقاته، كقَسَمِه بالطور، والتين، والزيتون، والصافَّات؛ أي الملائكة، والعاديات؛ أي خيول الجهاد، وهكذا، أمَّا القَسَم بحياة إنسانٍ ففريدٌ لرسول الله ﷺ، ولهذا يقول ابْنُ عَبَّاسٍ ب تعليقًا على ذلك: «مَا خَلَقَ اللهُ عز وجل وَلَا ذَرَأَ مِنْ نَفْسٍ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا سَمِعْتُ اللهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا بِحَيَاتِهِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: 72].
وبهذا التشريف العظيم، تشريفٌ آخر جاء في سورة البلد؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: 1، 2]؛ فالله في الآية الأولى يُقْسِم بالبلد ؛ أي مكة، وهي أعظم بلد في الدنيا، ثم يذكر جملةً اعتراضيَّة، وهي ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾؛ أي وأنت -يا محمد ﷺ- حلٌّ بهذا البلد، واختلف العلماء في تأويل المعنى تبعًا لاختلافهم في تأويل معنى كلمة «حِلٍّ»؛ فمنهم من قال: إنَّها تعني أنَّ مكة ستصير «حلالًا» لرسول الله ﷺ في وقتٍ ما، وهو ما حدث في فتح مكة حيث أُحِلَّت له -ﷺ- مكة ساعةً من النهار ، ومنهم من قال: إنَّها تعني استحلال المشركين لرسول الله ﷺ في مكة وإيذاءهم له مع أنَّهم يحرِّمون مكة في شرعهم، وفي هذا تعريضٌ بالكفار، وتشنيع لفعلهم، ومنهم من قال: إنَّها تعني مُقام رسول الله ﷺ في مكة، أي وأنت حالٌّ في مكة، أي مقيمٌ بها . هذه هي احتمالات التأويل، وكعادة ألفاظ القرآن المعجِزة فإنَّها تحتمل وجوهًا كثيرةً صحيحة، بحيث يمكن للَّفظ الواحد أن يحقِّق عدَّة معانٍ دقيقة كحالتنا مع هذا اللفظ في هذه الآية. ومع ذلك فالذي يمكن الجزم به أنَّ الآية في كلِّ الأحوال تهدف إلى تعظيم شأن الرسول ﷺ؛ سواءٌ بإحلال مكة له وقد حُرِّمت على مَنْ سواه من البشر، أم بالتعريض بمن آذاه، أم بالقَسَم بالبلد الذي يحلُّ به، أي يعيش فيه! إنَّها كرامةٌ كبرى في الحقيقة!
ومن تمام نعمته -سبحانه وتعالى- على رسوله العظيم ﷺ أن قَرَنَ لفظ الجلالة «الله» بالرسول ﷺ في أربعٍ وتسعين مرَّةً في القرآن الكريم! هذا حقًّا رقمٌ كبير، وهو في الواقع تشريفٌ عظيم، خاصًّةً عندما نقرأ الآيات بتمعُّن، فنفهم حينها أنَّ الآية كان يمكن أن تُساق بغير إضافة الرسول ﷺ، ولكنَّ الله فعل ذلك تكريمًا لحبيبه ﷺ، ودفعًا للمؤمنين لاتِّباعه وطاعته. من أمثلة هذه الآيات قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 279]، فحرب الله تعالى كافيةٌ أن تكون مُخَوِّفةً ومُهْلِكة، ولذا فإضافة الرسول ﷺ إنَّما جاءت لتعظيمه وتكريمه. يقول تعالى أيضًا: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]، ويقول كذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ [الأنفال: 27]، ويقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 59]، ويقول كذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]. في كلِّ هذه الأمثلة السابقة ترى أنَّ المعنى يمكن أن يكون تامًّا بغير وجود لفظ «الرسول» في الآية؛ ولكنَّه أُضيف للتعظيم له والتقدير، ولإعطاء سُنَّته القدر الكافي من التوقير، وهو توقيرٌ ينبغي أن يدفع إلى الاتِّباع.
ومن تمام نعمة الله تعالى على النبيِّ ﷺ أنَّه جعل طاعته ﷺ واجبةً على المسلمين، وهي طاعةٌ ذاتيَّةٌ خاصَّة؛ بمعنى أنَّها تأتي إلى جانب طاعة المؤمنين لله، ومكمِّلةً لها، ومع أنَّه من البدهيِّ أنَّ الله تعالى هو الذي أمر الرسول ﷺ بالشرائع التي جاءت في السُّنَّة المطهَّرة إلَّا أنَّه -سبحانه- أراد أن يُكَرِّم رسوله ﷺ بأن يجعل الطاعة له كالطاعة لربِّ العالمين، وهذا تشريفٌ كبير، ويبدو واضحًا في آياتٍ كثيرة. من أمثلة هذه الآيات قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33]، وقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 71]، وقال أيضًا: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ [الأحزاب: 66]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]، ومثال هذه الآيات كثيرٌ جدًّا في القرآن، بل وصل التعظيم من الله لرسوله ﷺ أن قال سبحانه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]! هكذا بهذه الصياغة التشريفيَّة الكبرى!
ومن تمام نعمة الله تعالى على نبيِّه ﷺ أن شرح صدره، فقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1]. هكذا ملأ يقينُ الإيمان بالله تعالى صدرَ الرسول ﷺ، وصار مقبِلًا على كلِّ خير، سعيدًا بكلِّ تكليفٍ ربَّانيٍّ مهما كان شاقًّا، مطمئنًا للنصر والظفر على أعدائه. -أيضًا- ذهب منه الغمُّ والهمُّ من كلام المشركين، وكان صدره يضيق من إعراضهم واستهزائهم. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر: 97]، كما أدَّى شرح الصدر هذا إلى منع الحرج الذي يمكن أن يُصاب به المرء إذا وجد غالب الناس يُكذِّبونه. قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: 2].
ومن تمام نعمة الله تعالى على رسوله ﷺ أن صلَّى عليه هو وملائكته، وأمر المسلمين أن يُصَلُّوا عليه كذلك؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]. وصلاة الله على رسوله ﷺ رحمةٌ ورضوانٌ وتقديرُ الخير له، وصلاة الملائكة عليه دعاءٌ واستغفار، أمَّا صلاة المؤمنين فقد سأل عنها الصحابة رضي الله عنهم، ووضَّحها لهم رسول الله ﷺ؛ فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قُولُوا اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ» . وهناك في السُّنّة النبويَّة عدَّة صيغٍ أخرى صحيحة للصلاة على رسول الله ﷺ.
وأخيرًا، من تمام نعمة الله تعالى على رسوله الكريم ﷺ أن اعتبره مِنَّةً منه سبحانه على المؤمنين؛ فقال جلَّ وعلا: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].
وفي الآية وجوهٌ كثيرةٌ تُعَدِّد جوانب نعمة الرسول ﷺ؛ فالمـَّنُّ به من الله على المؤمنين لأنَّه ليس نعمةً عاديَّة؛ إنَّما هو نعمةٌ مركَّبةٌ تشمل جوانب عدَّة.
من هذه الجوانب أنَّ الله نَبَّه المؤمنين أنَّ الرسول ﷺ ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، أي من جنسهم نفسه، أي بشرًا يمكن لهم تقليده واتِّباعه، أو قد يكون الخطاب للعرب المعاصرين لرسول الله ﷺ، ووجه المـِنَّة هنا أنَّهم سيستجيبون له بصورةٍ أيسر، لكونه من عِرقهم، وقبيلتهم، ويتكلَّم بلغتهم، ويعيش ظروفهم نفسها، ويجوز أنَّ اللفظ يستوعب الأمرين معًا؛ أعني عموم المؤمنين والعرب، وهذا من جمال وإعجاز القرآن الكريم.
ومن هذه الجوانب -أيضًا- أنَّ الرسول ﷺ يتلو عليهم «آيات» القرآن الكريم: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾، وآيات جمع آية، وهي المعجزة القاهرة، وسُمِّيَت الآية القرآنيَّة بذلك لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها فيها وجه إعجازٍ قاهر، بل عدَّة وجوه، ولقد تلاها رسول الله ﷺ كلَّها على المؤمنين، فكأنَّه أوصل لهم أكثر من ستَّة آلاف معجزةٍ قاهرة يدعمون بها إيمانهم، ويدحضون بها شبهات من يجادلهم في دينهم.
ومن هذه الجوانب كذلك أنَّ الرسول ﷺ ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾، والتزكية هي التطهير، وقدَّمها الله تعالى على تعليم الكتاب تشريفًا للرسول ﷺ؛ لأنَّ الترتيب المنطقي في أعراف البشر يتطلَّب التعليم أولًا، ثم تزكو النفوس بهذا التعليم، وهذا ما دعا به إبراهيم عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة إذ قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129]، فجعل التعليم قبل التزكية، أمَّا في آية المـَنِّ برسول الله ﷺ فقد قدَّم الله التزكية على التعليم، وكأنَّ وجود الرسول ﷺ الفعلي وسط المؤمنين كان سببًا في تزكيتهم وتطهيرهم حتى قبل أن يتعلَّموا! هذا في الواقع أمرٌ متوقَّع لأنَّ وجود الرسول ﷺ في وسط المؤمنين حافزٌ كبيرٌ على العمل، ووقايةٌ كبرى لهم من الزلل، وقد جعل الله تعالى وجود الرسول ﷺ في مكة وقايةً لأهلها المشركين من العذاب العام؛ فقال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33]، فإذا كان هذا يحدث مع الكافرين، فكيف يكون الحال مع المؤمنين؟!
ومن جوانب نعمة الرسول ﷺ -أيضًا- كونه يُعَلِّم المسلمين القرآن والحكمة: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ﴾؛ وتعليم المسلمين الكتابَ نعمةٌ كبرى؛ فالسُّنة شارحةٌ للقرآن، وحياة الرسول ﷺ كانت تطبيقًا عمليًّا للقرآن الكريم، ولذا عندما سأل التابعيُّ سعدُ بن هشام بن عامر رحمه الله، وهو ابن الصحابي الجليل هشام بن عامر رضي الله عنه، عائشةَ ل قائلًا: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَتْ: «أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ ﷺكَانَ الْقُرْآنَ» ، ومن المؤكَّد أنَّ تطبيق القرآن الكريم بغير سُنَّة الرسول ﷺ أمرٌ مستحيل؛ إذ لا إمكانيَّة في الحقيقة للصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الجهاد، أو الزواج، أو التجارة، أو الاعتقاد السليم في الله تعالى، وفي الآخرة، أو غير ذلك من عبادات، ومعاملات، وعقيدة، بغير تفهيم الرسول ﷺ وتوضيحه وبيانه، فهو -ﷺ- من هذا الوجه أجلُّ نعمةٍ من الله على عباده.
ثم من جوانب نعمة الرسول ﷺ أنَّه يُعَلِّم المسلمين «الحكمة» كما جاء في الآية؛ والحكمة لفظٌ عامٌّ شامل له تفسيراتٌ كثيرة، وقد فسَّره ابن عاشور بأنَّها «إِتْقَانُ الْعِلْمِ، وَإِجْرَاءُ الْفِعْلِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وفسَّرها -أيضًا- بأنَّها «مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ» ، وفسَّرها ابن كثير بأنَّها السُّنَّة النبويَّة. قال: الكتاب والحكمة: يَعْنِي: الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ ، ونقل البغوي عدَّة آراء للصحابة والتابعين في تفسير معنى الحكمة؛ «فابن عبَّاس ب وقتادة يقولان: هي عِلْمُ الْقُرْآنِ؛ نَاسِخُهُ وَمَنْسُوخُهُ، وَمُحْكَمُهُ وَمُتَشَابِهُهُ، وَمُقَدَّمُهُ وَمُؤَخَّرُهُ، وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَأَمْثَالُهُ، والسُّدِّيُّ يقول: هِيَ النُّبُوَّةُ، والضَّحَّاكُ يقول: هي الْقُرْآنُ وَالْفَهْمُ فِيهِ».
أيًّا ما كان الأمر فإنَّ الحكمة بمعانيها الواسعة مأخوذةٌ من حياة الرسول ﷺ، وقد اثبت الله تعالى في كتابه أنَّه هو -ﷺ- الذي يُعَلِّم المؤمنين الحكمة، وقد بيَّن الله قبل ذلك أنَّ «الحكمة» خيرٌّ كثير، فقال: ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269]، فكان رسول الله ﷺ هو الوسيلة التي تحصَّلت بها هذه الحكمة، وهذا يجعله أعظم مِنَّة على المسلمين.
وأخيرًا، فمن جوانب نعمة الرسول ﷺ أنَّه لم ينقل المسلمين من وضعٍ جيِّدٍ إلى وضعٍ أجود، بل نقلهم من وضعٍ في غاية السوء إلى وضعٍ في غاية الروعة والعظمة. هذا الوضع الذي كان فيه الناس قبل الإسلام وصفه الله تعالى في الآية بقوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، فضَلالُهم لم يكن عاديًّا إنَّما كان مبينًا؛ أي واضحًا شديدًا، ثم جاء الرسول ﷺ فكانت النقلة النوعيَّة التي تعجز عن وصفها الأقلام!
لعلَّه من أفضل الوسائل لمعرفة بعض جوانب هذه النقلة أن نتعرَّف عليها من خلال كلماتٍ قالها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو معاصرٌ لهذا التحوُّل الكبير.
يقول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مخاطِبًا النجاشي ملك الحبشة، وشارحًا أثرَ الرسول ﷺ في العرب: «كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ؛ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ».
لعلنا لاحظنا في كلام جعفر رضي الله عنه أنَّه ربط كلَّ خيرٍ وصلوا إليه ببعثة الرسول ﷺ فيهم، وبدعوته لهم، وبتعليمه إيَّاهم.
إنَّها نقلةٌ نوعيَّةٌ حقًّا!
اختصر الله هذه النقلة الجبَّارة في تلك الآية الجامعة الفذَّة من سورة الطلاق فقال: ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الطلاق: 11]!
حقًّا إنَّه خروجٌ تامٌّ من ظلمات الكفر، والضلال، والتخبُّط، إلى نور الإيمان واليقين، وسعادة الدارين.
هذا هو محمَّدٌ ﷺ في تعريف ربِّ العالمين سبحانه، ولْيَعلمْ القارئ أنَّني حرصتُ قدر الإمكان على الاختصار في هذا التعريف الربَّانيِّ لرسول الله ﷺ، لئلَّا يتضخَّم حجم الكتاب، وإلَّا فمَن أراد التفصيل فليقرأ القرآن العظيم كلَّه .
انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص49- 63.
التعليقات
إرسال تعليقك